قالت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، اليوم الاثنين، إن الحفاظ على الديمقراطية في تايوان يمثل ضرورة لحماية مستقبل الأجيال، معتبرة أن التوترات الإقليمية المتصاعدة تجعل من وضع الجزيرة اختبارًا للمجتمع الدولي بشأن التزامه بالسلام والقانون الدولي.
جاء ذلك في كلمة ألقتها في تايبيه ضمن سلسلة فعاليات "الجسور" (BRIDGES Event Series)، حيث شاركت بصفتها المتحدثة الرئيسية في مؤتمر بعنوان "التنمية المستدامة ومستقبلنا المشترك" يرافقه حوار عام.
وقالت كرمان في كلمتها إن تايوان أثبتت أن الحرية يمكنش أن تزدهر رغم العواصف، وأن الديمقراطية يمكن أن تكون حصنًا أمام أي تهديد"، مشيرة إلى أن أعظم ما تملك الجزيرة "ليس التكنولوجيا ولا الاقتصاد، بل الإنسان الحر.
وأضافت أن أمن تايوان جزء أساسي من أمن العالم، وأن أي تهديد لها يمثل تهديدًا للاستقرار الإقليمي والدولي، داعية المجتمع الدولي إلى الوقوف إلى جانب السلام والقانون الدولي في ظل الضغوط الساعية لفرض الأمر الواقع.
وأشادت كرمان بالتقدّم التكنولوجي لتايوان، خصوصًا في صناعة الرقائق الإلكترونية والابتكار الرقمي، لكنها حذّرت من أن هذا التقدّم يتطلّب حماية من القرصنة والحروب السيبرانية ومحاولات السيطرة السياسية.
واعتبرت كرمان أن تايوان قضية إنسانية وأخلاقية ورسالة تقول إن الحرية تُحمى بالشجاعة، مضيفة: أقف مع تايوان، مع قضيتها العادلة، مع شعبها ومستقبلها الحر، ومع حقها في حياة مستقرة دون تهديد أو ابتزاز.
وفيما يلي نص الكلمة:
السلام عليكم جميعاً، وشكراً لكم.
يشرفني أن أقف أمامكم اليوم لأتحدث عن قضية لم تعد مفهوماً نظرياً أو خياراً سياسياً، بل ضرورة وجودية عميقة ستحدّد مصير عالمنا: التنمية المستدامة.
نحن نعيش لحظة تاريخية حاسمة؛ لحظة يتقاطع فيها المناخ مع الاقتصاد، والأمن الإنساني مع العدالة الاجتماعية، وتتشابك فيها كل التحديات لتقول لنا بوضوح:
إن مستقبل الإنسانية لم يعد قابلاً للتأجيل؛ إنه مسؤولية يجب أن نتحمّلها اليوم، الآن، وفي كل قرار نتخذه.
لقد علمتنا العقود الماضية حقائق قاسية:
• عالم تُحرّكه الأرباح وحدها يهدر موارده؛
• عالم يهمل البيئة يهدّد بقاءه؛
• عالم يتجاهل العدالة الاجتماعية يفتح الأبواب للطغيان والفقر والصراع والتطرف.
من هذا الواقع تبرز التنمية المستدامة كإطار شامل يعيد توجيه بوصلتنا نحو الممكن، ونحو الضروري.
التنمية المستدامة هي التوازن بين ما نحتاجه اليوم وما يجب أن يبقى للأجيال القادمة.
إنها وعد… فكرة بسيطة بتأثير عميق:
• أن نبني اقتصاداً قوياً دون تدمير البيئة،
• أن نخلق الثروة دون أن نترك الملايين خارج دائرة الكرامة،
• أن نستخدم موارد الكوكب دون أن نسلب الأجيال القادمة حقها في الماء والهواء والغابات والحياة.
وعندما نتحدث عن الاستدامة، فنحن لا نتحدث فقط عن البيئة، بل عن اقتصاد أكثر عدلاً، ومجتمع أكثر شمولاً، وحوكمة قائمة على المسؤولية.
عالم تُقاس قوته ليس بعدد مصانعـه، بل بفرصه الإنسانية، وبقدرته على حماية موارده واحترام بيئته.
أصدقائي الأعزاء،
أحد أخطر التهديدات التي تواجه البشرية اليوم هو أننا نستهلك موارد الكوكب كما لو أنها ملك لنا وحدنا.
نأخذ من الأرض أكثر مما تعطي، ومن الغابات أكثر مما تنمو، ومن المحيطات أكثر مما تتجدد.
نحن جيل يعيش بطريقة—إن استمرت—ستجعل حياة أبنائنا أكثر صعوبة مما كانت حياتنا.
هنا تظهر التنمية المستدامة أولاً وقبل كل شيء كفلسفة أخلاقية قبل أن تكون سياسة تنموية:
• أن نزرع شجرة ليس لظلّها، بل لأجل الجيل القادم.
• أن نترك أنهارنا نظيفة لمن سيولدون بعدنا.
• أن نحمي الحياة على هذا الكوكب لأنها ليست ملكاً لنا وحدنا، بل أمانة يجب أن نصونها.
والتحول نحو الطاقة المتجددة ليس ترفاً؛ إنه أقوى دروعنا في مواجهة تغير المناخ.
الأصدقاء الأعزاء – البعد الاقتصادي: اقتصاد يخدم الإنسان
نعيش في عالم تهيمن عليه الشركات الكبرى والمصالح الضيقة، حيث تُقاس قيمة الدول بحجم أسواقها لا بكرامة شعوبها.
أما التنمية المستدامة فتأتي برسالة مختلفة:
الاقتصاد ليس غاية بحد ذاته؛ إنه وسيلة لصناعة حياة كريمة.
اقتصاد بلا عدالة هو تمييز،
اقتصاد بلا أخلاق هو استغلال،
اقتصاد بلا إنسانية هو تدمير.
نحن بحاجة إلى اقتصاد أخلاقي قائم على:
• ابتكار ينهض بالناس ولا يسحقهم،
• تكنولوجيا تخدم البشرية لا الأنظمة القمعية،
• شركات تُحاسَب أمام المجتمع والبيئة،
• استثمارات تحترم حقوق العمال،
• وأسواق لا تُبنى على معاناة الفقراء.
التنمية المستدامة تعيد تعريف النجاح الاقتصادي:
ليس بما نملكه، بل بما نضيفه للعالم.
والاستثمار في التعليم والصحة ليس عبئاً، بل أساس أي تنمية مستدامة.
الأصدقاء الأعزاء – البعد الاجتماعي: لا تنمية بدون عدالة
لا يمكن لأي أمة أن تتحدث عن التنمية بينما نصف سكانها تحت خط الفقر، ومدارسها تتداعى، ونساؤها بلا حقوق، وأقلياتها مهمّشة، ولاجئوها يعانون، وشبابها بلا أمل.
التنمية تعني أن يعيش كل إنسان بكرامة:
• أن ينهض الفقير لا أن يبقى محاصراً،
• أن يكون التعليم حقيقياً لا شكلياً،
• أن تكون المرأة شريكاً كاملاً لا ضحية للعنف والتمييز،
• أن يُحمى الأطفال من الحرب والجهل والجوع.
وتعلمنا التنمية المستدامة أن:
• لا عدالة بلا مساواة،
• لا تقدم بلا حقوق،
• لا استقرار بلا مكافحة الفقر،
• ولا سلام بلا محاسبة للمعتدين.
مكافحة الفقر وتمكين النساء ودعم الفئات المهمشة ليست شعارات إنسانية، بل شروط للاستقرار والازدهار والسلام.
الأصدقاء الأعزاء – التنمية المستدامة والسلام: لا وجود لأحدهما دون الآخر
الحرب هي عدو التنمية.
لا يمكن بناء اقتصاد في بلد يحترق،
ولا عدالة في بلد يُنهب،
ولا بيئة نظيفة في أرض مليئة بالدخان والقذائف.
انظروا حولكم:
• غزة، حيث المدارس والمستشفيات والجامعات دُمّرت والبنى التحتية أُزيلت.
• اليمن، الذي تلتهمه الحرب رغم إمكاناته الهائلة.
• السودان، حيث الصراعات تمحو أجيالاً كاملة.
• أوكرانيا، حيث يلتهم النزاع كل فرص التنمية.
لا يمكن الحديث عن التنمية المستدامة دون إنهاء الاحتلال، ووقف الحروب، ومحاكمة مجرمي الحرب، وبناء نظام دولي يقدم الإنسان على المصالح.
كما أن الديمقراطية ركن أساسي في التنمية المستدامة؛ فهي ليست ترفاً بل شرطاً للازدهار والأمن والإبداع.
لقد اتضح أن الأمن البيئي والاقتصادي والاجتماعي هو أمن واحد لا يتجزأ.
ولكي يكون عالمنا آمناً، يجب إنهاء التفاوت وحماية الموارد وتوسيع دائرة العدالة.
التنمية المستدامة مسؤولية الجميع: الحكومات أولاً، ثم الجامعات، والشركات، والقادة، والشباب، وكل فرد على هذا الكوكب.
قبل أن تكون سياسة، هي وعي جديد وطريقة جديدة في التفكير—تضع الإنسان في المركز، وتحمي البيئة، وتعيد تعريف التقدم على أنه تقدم للجميع لا لفئة على حساب أخرى.
تايوان – نموذج لمستقبلنا المشترك
تايوان ليست مجرد جزيرة أو اقتصاد ناجح؛ إنها رمز عالمي للإبداع والمرونة والإرادة الحرة.
في منطقة جيوسياسية حساسة، يؤثر أمن تايوان على الأسواق العالمية والتكنولوجيا واستقرار منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
نجاح تايوان يؤكد حقيقة واحدة: إنها نجحت بالديمقراطية، لا بالرغم منها.
لقد أصبحت حرية المعرفة والبحث والمجتمع المدني والحوكمة المسؤولة محركات لتقدمها.
ومع ذلك، فإن حتى الديمقراطيات القوية تواجه تحديات—وتايوان ليست استثناء.
فهي تعاني من:
• الاعتماد على الطاقة،
• نقص المياه المتكرر،
• ارتفاع تكاليف السكن،
• ضغوط على سوق العمل والاندماج الاجتماعي.
لكن هذه التحديات لا تُضعف إنجازاتها، بل تبرز قوتها.
فالدول الواثقة هي التي تواجه مشكلاتها وتحولها إلى فرص.
من خلال حريتها وعلمها وإنسانيتها، تبقى تايوان منارة أمل للمنطقة والعالم.
أعزائي الشباب:
أنتم الجيل الذي لا ينتظر الظروف—بل يصنعها.
تمتلكون أدوات لم يمتلكها أي جيل قبلكم:
الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا، التواصل العالمي، ريادة الأعمال، الوعي، الشجاعة، والمعرفة.
وبهذه الأدوات تستطيعون بناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية.
دوركم هو الابتكار، والتحدي، وكسر القوالب القديمة، وفتح الأبواب الجديدة، وبناء نماذج تنموية قائمة على الفعل لا الانتظار.
لا تنتظروا أن يصنع الآخرون المستقبل.
فالمستقبل سيُكتب بأيديكم—بإبداعكم وشجاعتكم وتصميمكم على بناء عالم أفضل.
شكراً تايوان.
شكراً جامعة تسينغ هوا الوطنية.
وشكراً لكل من يؤمن بأن المستقبل يبدأ بكلمة… بخطوة… وبحلم.





