قالت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام، توكل كرمان، إن الديمقراطية تمثل الأساس الحقيقي للأمن الوطني والعالمي، مؤكدة أن غيابها يشكّل المحرك الأكبر للنزاعات وعدم الاستقرار.
وأضافت توكل كرمان خلال خطابها في منتدى هاليفاكس الدولي للأمن في كندا، أن بعض الدول الغربية أدركت هذا المفهوم متأخراً، بعد ظهور بوادر تراجع ديمقراطي داخلها.
التهديد الأكبر للاستقرار
وأوضحت كرمان أن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق عبر الأنظمة الاستبدادية، معتبرة أن الديمقراطية توفر شرعية الحكم، وتضمن انتقالاً سلمياً للسلطة، وتقلل الفساد والتطرف من خلال مؤسسات قائمة على المشاركة والمساءلة.
وقالت كرمان: الديمقراطية ليست قيمة أخلاقية فقط، بل ضرورة استراتيجية للسلام الدائم.
أنظمة الاستبداد تشعل الحروب
وأشارت كرمان إلى أن العديد من الحروب الكبرى في القرن الماضي والحاضر نشأت في دول تحكمها أنظمة غير ديمقراطية.
واعتبرت كرمان أن الغزو الروسي لأوكرانيا نتاج عقلية إمبراطورية لا يمكن أن تتشكل في نظام ديمقراطي، محذّرة من أن أي خطة سلام تمنح موسكو مكاسب ستشجع الطغاة حول العالم.
دعوات بشأن اليمن وفلسطين والسودان
واتهمت كرمان إيران والسعودية والإمارات بتمزيق اليمن عبر دعم جماعات مسلحة ومشاريع انفصالية، داعية إلى إنهاء التدخلات الخارجية وحماية وحدة البلاد.
وقالت كرمان إن اليمنيين وحدهم قادرون على هزيمة الحوثيين وبناء دولة ذات سيادة.
وفي الشأن الفلسطيني، دعت إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وضمان حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
كما أشارت إلى أن دعم الإمارات لقوات الدعم السريع في السودان حوّل ثورة سلمية إلى حرب مدمرة.
إصلاح داخلي للديمقراطيات الغربية
وحثّت كرمان الديمقراطيات على معالجة نقاط ضعفها الداخلية، وبينها تأثير المال على السياسة، تنامي الشعبوية، خطاب الكراهية، وتراجع استقلال القضاء.
وقالت كرمان إن مصداقية الديمقراطيات في مواجهة الأنظمة الاستبدادية تبدأ من التزامها بقيمها.
وأكدت كرمان أن الديمقراطية تظل أقوى من الدكتاتورية عندما تتمسك الدول بقيمها وتدافع عنها، مضيفة: عندما تتحد الديمقراطيات وتؤمن بمبادئها، تكون النتيجة دائماً واضحة: الديمقراطية تتغلب على الاستبداد.
وفيما يلي نص الكلمة:
السلام عليكم،
يسعدني جدًا أن أكون معكم اليوم.
ما إن أخبرني صديقي العزيز بيتر بأن الديمقراطية ستكون موضوع مؤتمر هذا العام، حتى شعرت بفرحة غامرة؛ فمناقشة الديمقراطية هنا، في منتدى هاليفاكس للأمن، وهو تجمع عالمي رفيع المستوى لشؤون الأمن، ليست مجرد أمر رمزي، بل تعكس تحولًا جذريًا في إدراك العالم لجذور الحرب والصراع وعدم الاستقرار.
لقد أخذ العديد من القادة السياسيين والأمنيين في الغرب يدركون حقيقةً طالما سعينا إلى توضيحها: أن الديمقراطية هي الركيزة الحقيقية للأمن، سواء على المستوى الوطني أم على المستوى العالمي.
وللأسف، لم تستوعب بعض الديمقراطيات هذه الحقيقة إلا حين بدأت الديمقراطية ذاتها تتآكل داخل حدودها، ورأت أولى ملامح الاستبداد تلوح في الأفق.
لسنوات ونحن نؤكد بأن الاستقرار الحقيقي لا يأتي من الدكتاتوريات.
ولكننا مقابل ذلك ووجهنا بخيار خاطئ: "الأمن أو الحرية"، "الاستقرار أو الديمقراطية" - كما لو أن هذه القيم لا تتعايش مع بعضها.
غير أن الحقيقة جلية واضحة: غياب الديمقراطية هو أكبر تهديد للأمن والاستقرار.
واليوم، أدرك العالم أخيرًا أن الوصول متأخرًا خير من عدم الوصول مطلقاً.
أهمية الديمقراطية
الديمقراطية هي مصدر الاستقرار لأنها تقوم على الشرعية لا القمع، وعلى المؤسسات لا الأفراد، وعلى المشاركة لا الإقصاء.
متى امتلك الناس حق التعبير، اتجهوا للدفاع عن دولتهم لا لمحاربتها.
تحول الديمقراطية دون نشوب الأزمات من خلال خلق قنوات سلمية للتظلمات والمنافسة السياسية، ناهيك عن أنها تضمن الانتقال السلمي للسلطة، وهو أهم محرك للاستقرار طويل المدى.
وهي أيضاَ تحد من التطرف، فالناس حينما يتاح لها المشاركة والتصويت والاحتجاج والنقد والتنظيم بحرية، يتلاشى الميل الى العنف.
كما تحارب الديمقراطية الفساد من خلال الشفافية والمساءلة والمؤسسات المستقلة.
أما الاستبداد فهو نقيض ذلك، إذ يؤجج الفوضى ويشعل الحروب ويغذي الإرهاب ويخلق موجة النزوح الجماعي.
إن أي محاولة لبناء الأمن على حساب الديمقراطية ليس منها سوى استقرار مؤقت وهش.
الديمقراطية ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي ضرورة استراتيجية للسلام الدائم.
العالم اليوم
يشهد العالم تصاعدًا في التوترات وتداعياً أمنيًا - ليس بسبب الشعوب، بل بسبب أنظمةٍ تحتقر القانون والحق والمؤسسات.
صحيحٌ أن للحرب أسبابًا عديدة، منها الظلم الاقتصادي وأزمات المناخ، لكن يظل الاستبداد هو المحرك الرئيس للصراع.
ليس من قبيل المصادفة أن تُشنّ حروب القرن الماضي الكبرى على يد أنظمةٍ غير ديمقراطية، فألمانيا النازية بقيادة هتلر أشعلت الحرب العالمية الثانية؛
وإيطاليا بقيادة موسوليني غزت جيرانها؛
واليابان الإمبراطورية هاجمت آسيا وبيرل هاربور؛
والاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين احتل أوروبا الشرقية؛
وصدام حسين غزا الكويت.
واليوم، تُكرّر روسيا والصين وإيران الشيء ذاته.
في أوكرانيا، ما كانت الحرب لتحدث لو أن روسيا تحكمها الديمقراطية؛
إن تلك الحرب انعكاس لعقليةٍ إمبرياليةٍ ترى الأمم مجرد أراضٍ يمكن الاستحواذ عليها.
وفي غزة والضفة الغربية، يمضي الاحتلال الإسرائيلي بلا رادع،
ويحرم الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم، ويرتكب جرائم االحرب الجسيمة، متسببا في اندلاع إعصار يمتد من البحر الأبيض المتوسط وحتى البحر الأحمر.
وفي اليمن، تسببت الأنظمة الاستبدادية الإقليمية في تدمير الدولة وتمزيق المجتمع؛ فإيران عبر الحوثيين، والسعودية والإمارات عبر هيمنتهما ودعمهما للمشاريع الانفصالية.
وفي السودان، أحال دعم الإمارات لقوات الدعم السريع ثورتهم السلمية إلى حرب إبادة.
وفي سوريا، قتل نظام بشار الأسد وشرد وعذب الملايين، ليجعل أبواب البلاد مشرعة أمام الجيوش الأجنبية والإرهاب.
وفي فنزويلا، دفع الفساد والقمع الملايين إلى الفرار.
وفي الصين، يشكّل النموذج القومي القمعي هناك تهديدًا للاستقرار الإقليمي والعالمي.
حتى داخل الديمقراطيات نفسها، تبرز اليوم أشكال جديدة من الاستبداد.
اندلعت حروب العراق وأفغانستان عندما تخلت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى عن قيمها الديمقراطية.
الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم؛ بل هي التزام مستمر بسيادة القانون وحقوق الإنسان والشفافية والمساءلة والكرامة الإنسانية.
عندما تُنتهك هذه المبادئ، تبدأ أي دولة بالانزلاق نحو الاستبداد.
تشهد الحريات اليوم تآكلاً حتى في أوروبا والولايات المتحدة، حيث نشهد طغيان المال المسيطر على الإعلام والسياسة،
وطغيان الشعبوية القائمة على الكراهية وكراهية الأجانب وكراهية الإسلام ومعاداة السامية والعنصرية – إنه استبداد متستر بقناع الديمقراطية.
ما الذي علينا فعله؟
علينا أن نتمسك بالديمقراطية بلا هوادة- فهي ملاذنا الحقيقي الوحيد في وجه الاستبداد العالمي.
الديمقراطية ليست شعارًا؛ إنها حرية التعبير، واستقلال المحاكم، وفصل السلطات، والعدالة الاجتماعية، والمساءلة الحقيقية.
على الديمقراطيات إصلاح نفسها بـ كبح تأثير المال على السياسة، ورفض خطاب الكراهية،
ومنع الشعبوية من تفريغ المؤسسات، وحماية الحرية الأكاديمية وحقوق الطلاب،
واستعادة الثقة بين الشعب والمؤسسات، وضمان استقلال القضاء،
ومحاسبة المسؤولين عن إساءة استخدام السلطة.
والأهم من ذلك، على الديمقراطيات وقف دعمها للمستبدين، ووضع حد للمعايير المزدوجة التي تساوي بين الضحية والجلاد.
عندها فقط يمكنها قيادة نضال عالمي موثوق من أجل الحرية والعدالة.
أوكرانيا: اختبار حاسم
ما يُسمى بـ "خطة ترامب" هو في جوهره خطة للتخلي عن أوكرانيا،
وإضفاء الشرعية على عدوان بوتين – ليكون ذلك بمثابة مكافأة له على تدمير المدن،
وتشريد الملايين، وضم الأراضي.
مثل هذه المقترحات لا تُنهي حروباً؛ بل تُشجع الفاشية الروسية،
وتشجع الطغاة في كل مكان.
يجب على الغرب أن يضمن ألا يجني بوتين شيئًا،
وأن تبقى أوكرانيا حرةً ومستقلةً وذات سيادة كاملة ضمن حدودها،
بدءاً من أول كيلومتر على الحدود البولندية وحتى آخر سنتيمتر على طول الحدود الروسية.
أوكرانيا هي خط الدفاع الأول لأوروبا بأكملها.
فيما يخص اليمن، على المعسكر الديمقراطي اسناد الشعب اليمني ضد الحوثيين،
وضد مشروع إيران الذي يقف وراءهم.
وحدهم اليمنيون - لا القصف ولا التدخل الأجنبي - القادرون على هزيمة هذه الميليشيا.
يجب حماية وحدة اليمن وسيادته، وإنهاء التدخل السعودي الإماراتي المدمر.
أما فلسطين، فيجب أن تحصل على حقها الكامل في تقرير المصير وإقامة الدولة.
يجب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وأن يتمتع الفلسطينيون بحرية بناء دولة ديمقراطية تضمن الكرامة والمساواة والعدالة.
رسالة الختام
تنتصر الديمقراطية عندما تقف إلى جانب الشعوب لا الطغاة؛
وإلى جانب العدالة لا مجرمي الحرب – وذلك حينما تبني دول مستقرة، ومؤسسات شفافة، واقتصادات عادلة، ومساحات مدنية مفتوحة.
وتُهزم الديكتاتوريات عندما تُقدم الديمقراطيةُ بديلًا أقوى من الخوف، وأبعد من الكراهية، وأعمق من العنف.
لا ينتصر المعسكر الاستبدادي إلا عندما تتخلى الديمقراطيات عن قيمها أو يدب الخوف فيها، او تحاكي الاستبداد.
أما عندما تتحد الديمقراطيات، وتؤمن بنفسها، وتدافع عن مبادئها، تكون النتيجة واضحة دائمًا:
تنتصر الديمقراطية أو تهزم الديكتاتوريات.






