كلمات
كلمة توكل كرمان في مؤتمر التنمية المستدامة ومستقبلنا المشترك – تايوان
السلام عليكم جميعًا، وشكرًا لكم.
يشرفني أن أقف أمامكم اليوم لأتحدث عن قضية لم تعد مفهومًا نظريًا أو خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية عميقة وهي التي ستحدد مصير عالمنا تلك القضية هي التنمية المستدامة.
نحن نعيش لحظة تاريخية فاصلة، لحظة يتقاطع فيها المناخ مع الاقتصاد، والأمن الإنساني مع العدالة الاجتماعية، وتتقاطع فيها كل التحديات لتقول لنا بوضوح إن مستقبل الإنسانية لم يعد أمرًا يمكن تأجيله؛ بل مسؤولية يجب أن نتحملها اليوم، الآن، وفي كل قرار نتخذه.
لقد علّمتنا العقود الماضية حقائق قاسية، عالم تُسيّره الأرباح وحدها هو عالم يهدر موارده، عالم يهمل البيئة هو عالم يهدد بقاءه؛ وعالم يتجاهل العدالة الاجتماعية يفتح أبوابه للطغيان والفقر والصراع والتطرف. ومن هذه الحقيقة ظهرت التنمية المستدامة كإطار شامل يُعيد توجيه بوصلة العالم نحو ما هو ممكن وما هو ضروري.
التنمية المستدامة هي التوازن بين ما نحتاجه اليوم وما يجب أن يبقى للأجيال القادمة.
إنها، في جوهرها، وعد، فكرة بسيطة لكن تأثيرها عظيم، وتعني أن نبني اقتصادًا قويًا دون أن ندمّر البيئة، أن نخلق الثروة دون أن نترك الملايين خارج دائرة الكرامة، وأن نستخدم موارد الكوكب دون أن نسرق حق الأجيال القادمة في الماء والهواء والغابات والحياة. وعندما نتحدث عن الاستدامة فإننا لا نتحدث عن البيئة فقط، بل نتحدث عن اقتصاد أكثر عدلًا، ومجتمع أكثر شمولًا، وحوكمة تقوم على المسؤولية، وعن عالم يُقاس قوته بقدر الفرص التي يوفرها لكل إنسان، وبقدر حفاظه على موارده واحترامه لبيئته.
أصدقائي الأعزاء،
أحد أخطر التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم هو أننا نستهلك موارد الكوكب وكأنها ملك لنا وحدنا.
نأخذ من الأرض أكثر مما تتحمل، ومن الغابات أكثر مما تنمو، ومن البحار أكثر مما تتجدد. نحن جيل بالعيش بهذه الطريقة، فإن حياة أطفالنا والأجيال القادمة ستكون اصعب بكثير من حياتنا.
إن الاحتباس الحراري يضاعف هذه المسؤولية. فهو ناتج عن أفعالنا حرق الوقود الأحفوري، قطع الغابات، وإطلاق كميات هائلة من الغازات الدفيئة.
لقد حبسنا الحرارة في الغلاف الجوي ودفعنا الكوكب نحو تغير خطير.
إن ارتفاع درجات الحرارة ليست أرقامًا مجردة بل حقائق مدمّرة، من ذوبان الجليد إلى موت الشعاب المرجانية، وانهيار النظم البيئية، وموجات الحر التي تهدد حياة البشر.
وتعرف تايوان هذه الحقيقة أكثر من غيرها، فهي تقف في الخطوط الأمامية لأزمة المناخ، تعاني من الأعاصير العنيفة، والأمطار الغزيرة، والجفاف الشديد، وفقدان التنوع البيولوجي، وارتفاع مستوى البحر الذي يهدد المجتمعات الساحلية والبنية التحتية.
لهذا، فإن التحول نحو الطاقة المتجددة ليس رفاهية. بل هو درع تايوان والعالم الأقوى في مواجهة الاحتباس الحراري، وأحد أهم أدوات البشرية لإنقاذ مستقبلنا المشترك.
أصدقائي،
نعيش اليوم في عالم تهيمن عليه الدول العظمى والشركات الكبرى والمصالح الضيقة، حيث يُقاس قدر الأمم بحجم أسواقها أكثر مما يُقاس بكرامة شعوبها.
لكن التنمية المستدامة تأتي برسالة أخرى:
الاقتصاد ليس غاية إنه وسيلة لصنع حياة كريمة.
اقتصاد بلا عدالة هو تمييز.
اقتصاد بلا أخلاق هو استغلال.
اقتصاد بلا إنسانية هو تدمير.
نحتاج إلى اقتصاد أخلاقي يقوم على الابتكار الذي يرفع الإنسان لا الذي يسحقه، وعلى التكنولوجيا التي تخدم البشرية لا الأنظمة الاستبدادية،
وعلى الشركات المسؤولة أمام المجتمع والبيئة، وعلى الاستثمارات التي تحترم حقوق العمال.
إن الاستثمار في التعليم والصحة ليس عبئًا بل أساس أي تنمية مستدامة.
وبهذا تُعيد التنمية المستدامة تعريف النجاح الاقتصادي ليس بما نراكمه، بل بما تقدمه للعالم.
أصدقائي،
التنمية تعني أن يعيش كل إنسان بكرامة، أن يتمكن الفقير من النهوض لا أن يبقى محاصرًا، أن يكون التعليم حقيقيًا وعالي الجودة لا شكليًا، أن تكون المرأة شريكة كاملة لا ضحية عنف وتمييز، أن يُحمى الأطفال من الحرب والجهل والجوع، أن يحصل الجميع على الرعاية الصحية متاحة وإنسانية وقادرة على إنقاذ الحياة،
أن يكون الماء النظيف والغذاء الآمن حقًا لا امتيازًا، أن يكون السكن لائقًا وغير مزدحم أو غير آمن، أن تكون الوظائف عادلة، والأجور منصفة، والعمال محميين، وأن تنعم كل المجتمعات بهواء نظيف وبيئة صحية وقدرة على مواجهة الأزمات المناخية.
التنمية الحقيقية لا تُقاس فقط بالناتج المحلي، بل أيضًا تُقاس بكمية الكرامة والأمان والفرص والأمل في حياة الناس اليومية.
ولذا فإن التنمية المستدامة تعلمنا أن لا عدالة بلا مساواة.
وأن لا تقدم بلا حقوق.
وأن لا استقرار بلا إنهاء الفقر.
ولا سلام بلا محاسبة الظالمين.
إن محاربة الفقر، وتمكين النساء، ودعم التعليم والصحة ليست شعارات فارغة، بل شروط للاستقرار والازدهار والسلام.
أصدقائي،
الاستبداد والاحتلال والحرب هما أعداء التنمية.
انظروا حولنا، غزة حيث دُمّرت المدارس والمستشفيات والجامعات ومحيت البنى التحتية.
اليمن، الذي التهمته الحرب والانقلاب رغم إمكاناته العظيمة.
السودان، حيث تمحو الصراعات والمؤامرات والحرب أجيالًا كاملة ، أوكرانيا، حيث يلتهم الصراع كل فرص التنمية وتنذر بتقويض الدولة وتهجير الشعب.
لا يمكن الحديث عن التنمية المستدامة دون إيقاف الطغيان، وإنهاء الاحتلال، ووقف الحروب، ومحاكمة مجرمي الحرب، وبناء نظام دولي يضع الإنسان فوق المصالح.
وهكذا تصبح الديمقراطية شرط أساسي للتنمية المستدامة. فهي ليست رفاهية، بل أساس الازدهار والأمن والإبداع.
لقد أصبح واضحًا أن الأمن البيئي والاقتصادي والاجتماعي هما أركان لأمن واحد شامل لا يمكن الفصل بينها.
إذا أردنا عالمًا آمنًا، فعلينا أن ننهي عدم المساواة، ونحمي الموارد، ونوسع دوائر العدالة. يمكن القول أن التنمية المستدامة مسؤولية الجميع: الحكومات أولًا، ثم الجامعات والشركات والقادة والشباب وكل فرد على هذا الكوكب. إنها وعي جديد وطريقة جديدة للتفكير ، طريقة تضع الإنسان في المركز، وتحمي البيئة، وتُعيد تعريف التقدم بأنه تقدم للجميع، لا لفئة على حساب أخرى.
أصدقائي الأعزاء،
مرة أخرى يسعدني أن أكون معكم اليوم في تايوان، هذه الأرض التي أثبتت أن الحرية يمكن أن تزدهر حتى في أقسى العواصف، وأن الديمقراطية يمكن أن تكون حصنًا قويًا أمام أي تهديد.
تقف تايوان اليوم في قلب معادلة عالمية حساسة. تواجه تحديات كبرى، لكنها تقدم في الوقت ذاته نموذجًا ملهمًا للعالم في مجالات كثيرة.
وأعظم ثروة تمتلكها تايوان ليست التكنولوجيا ولا الاقتصاد بل الإنسان الحر.
ولهذا، فإن حماية الديمقراطية التايوانية أمر أساسي لحماية مستقبل أجيالها في ظل الضغوط والتهديدات التي تسعى لفرض واقع جديد وتقويض إرادة الناس.
إن التوترات الإقليمية المتصاعدة تجعل من تايوان اختبارًا حقيقيًا للمجتمع الدولي، هل سيقف العالم مع السلام والقانون الدولي أم سيدير ظهره؟
من الواضح أن أمن تايوان جزء أساسي من الأمن العالمي، وأي تهديد لها هو تهديد للاستقرار الإقليمي والدولي.
لقد قطعت تايوان شوطًا كبيرًا في التميز التكنولوجي، من صناعة أشباه الموصلات إلى الابتكار الرقمي حتى أصبحت نبضًا حيويًا للاقتصاد العالمي.
لكن هذا التقدم يحتاج إلى حماية من الهجمات السيبرانية والحروب الرقمية ومحاولات التأثير السياسي عبر القوة وفرض الأمر الواقع.
تايوان اليوم ليست مجرد أرض جغرافية؛ إنها قضية إنسانية وأخلاقية.
وليست مجرد جزيرة أو اقتصاد ناجح، إنها رمز عالمي للإبداع والصمود والإرادة الحرة. ورغم صغر حجمها، تتحمل تايوان مسؤولية بيئية كبيرة. فإن اعتمادها على الطاقة المستوردة وتحولها نحو الطاقة المتجددة يضعها أمام منعطف تاريخي.
وأؤمن أن تايوان قادرة على أن تصبح رائدًا إقليميًا في الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح البحرية، وتخزين الطاقة، والهيدروجين الأخضر. فالعالم يحتاج إلى ابتكار تايوان في هذه المجالات بقدر حاجته لابتكارها في التكنولوجيا.
لأن التنمية المستدامة ليست رفاهية بل ضرورة. وكل تأخير يدفع الكوكب نحو كارثة مناخية سيكون أول ضحاياها الفقراء والمهمشون.
أعزائي الشباب،
أنتم الجيل الذي لا ينتظر الظروف بل يصنعها. تمتلكون أدوات لم يمتلكها أي جيل قبلكم، الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا، التواصل العالمي، ريادة الأعمال، الوعي، الشجاعة، والمعرفة.
وبهذه الأدوات، يمكنكم بناء عالم أكثر عدلًا وإنسانية.
ومهمتكم ليست الابتكار والتحدي وكسر القوالب القديمة فقط، بل الوقوف بثبات مع العدالة بكل أنواعها ، العدالة المناخية والاقتصادية والاجتماعية.
عليكم مواجهة الفساد الذي يسرق فرص الفقراء ويدمر الثقة بالمؤسسات.
وعليكم الدفاع عن حقوق العمال في كل مكان، وخاصة في آسيا، حيث تستغل الشركات الدولية الجشعة تدني الأجور وضعف الحماية. فالعالم الذي يبني ازدهاره على معاناة العمال هو عالم يجب أن ترفضوه، وتستبدلوه بعالم يقوم على الكرامة والعدالة والإنصاف والمساءلة.
دوركم هو فتح الأبواب الجديدة، والمطالبة بالشفافية من أصحاب السلطة، وبناء نماذج تنمية قائمة على الفعل لا الانتظار.
لا تنتظروا الآخرين ليصنعوا المستقبل.
إن المستقبل سيُكتب بأيديكم وإبداعكم وشجاعتكم وعزمكم على بناء عالم أفضل.
شكرًا تايوان.
شكرًا لجامعة تسينغ هوا الوطنية.
وشكرًا لكل من يؤمن أن المستقبل يبدأ بكلمة… بخطوة… وبحلم.

