أكدت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام، توكل كرمان، أن السلام الحقيقي لا يتحقق بمجرد غياب أصوات البنادق، بل يقوم على أسس العدالة والكرامة وغياب الظلم، مشددة على أن الاستقرار الظاهري في ظل الاستبداد ليس إلا سلامًا زائفًا وهشًا.
جاء ذلك في كلمة ألقتها كرمان خلال مشاركتها في مؤتمر الروتاري الدولي في كندا، بحضور أكثر من 15 ألف مشارك من حول العالم، حيث تناولت مفهوم السلام من منظور حقوقي وإنساني، منتقدة النظرة الضيقة التي تربطه فقط بوقف إطلاق النار أو إنهاء الحروب.
وقالت كرمان إن "السلام ليس مجرد هدنة مؤقتة تُفرض بالقوة، ولا هو صمت البنادق فوق ركام العدالة"، موضحة أن "السلام الذي ننشده هو غياب الاحتلال، وانهيار التمييز، وانتهاء الاستبداد، وقيام دولة القانون والحقوق المتساوية للجميع".
السلام والعدالة وجهان لعملة واحدة
وحذّرت كرمان من التعاطي الدولي مع النزاعات بمنطق الصفقات على حساب حقوق الضحايا، معتبرة أن مثل هذا المسار ساهم في تمكين أنظمة فاشية وطائفية على حساب تطلعات الشعوب للحرية والديمقراطية، كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا والسودان.
وأضافت كرمان: "السلام لا ينفصل عن كرامة الإنسان وحقه في أن يكون شريكًا لا تابعًا. لا يمكن بناء سلام فوق أنقاض الحرية".
نقد صريح للمجتمع الدولي والأمم المتحدة
ووجّهت كرمان انتقادات حادة لأداء الأمم المتحدة، واصفة إياها بـ"الضعيفة والعاجزة" عن التصدي للفظائع والانتهاكات الجسيمة، لا سيما في فلسطين وإيران واليمن. واتهمت المنظمة الدولية بالتواطؤ أو العجز عن اتخاذ مواقف حاسمة، مشيرة إلى أن "الحوثيين، رغم ما يرتكبونه من جرائم بحق اليمنيين، لا يزالون يُعاملون كطرف سياسي، لا كمجرمي حرب".
وطالبت كرمان بإصلاح جذري وعميق في بنية الأمم المتحدة، يتحول فيها مجلس الأمن إلى جهة فاعلة بحق، تمتلك سلطة عسكرية دولية شرعية لحماية السلم والأمن العالميين، مع ضرورة تسمية المجرمين بأسمائهم وعدم المساواة بينهم وبين الضحايا.
النساء في قلب السلام
وأفردت كرمان جزءًا من خطابها لتسليط الضوء على دور النساء في مسارات بناء السلام، مؤكدة أن "النساء لا يجب أن يُنظر إليهن فقط كضحايا للحروب، بل كقائدات فاعلات في إنهائها".
وأشارت إلى أن النساء في مناطق النزاع غالبًا ما يكنّ في الصفوف الأولى لإنقاذ الأرواح والمطالبة بالعدالة، مضيفة: "إن كنا نريد نهاية حقيقية للحروب، فعلينا أن نضع أصوات النساء في قلب مسارات الحل، وأن نمكّن قيادتهن في بناء السلام".
حرية التعبير في خطر
وفي خطابها، لم تغفل كرمان التهديدات المتزايدة التي تتعرض لها حرية التعبير وحرية الصحافة، مشيرة إلى أن هذه الحريات لم تعد مهددة فقط في الدول الاستبدادية، بل حتى في بعض الديمقراطيات الغربية، مثل الولايات المتحدة وكندا، حيث تتكرر حالات قمع أصوات الطلاب والمعارضة السلمية.
ووصفت كرمان حرية التعبير بأنها "ليست ترفًا، بل هي خط الدفاع الأول عن الحقيقة، والحصن الأخير للمساءلة"، محذرة من أن تآكلها يقود إلى انهيار الديمقراطية وانعدام الشفافية.
من الربيع العربي إلى شراكة كونية في النضال
وأعربت كرمان عن فخرها بانتمائها إلى ثورات الربيع العربي، واعتبرت أنها رغم ما تعرضت له من انتكاسات وردات عنيفة، لا تزال تمثل نضالًا حيًا من أجل الكرامة والعدالة ودولة القانون.
وأكدت كرمان أن التحدي اليوم لا يقتصر على دول الجنوب، بل باتت حتى الدول الغربية الديمقراطية مهددة بانحراف خطير في منظوماتها الحقوقية، داعية إلى توحيد نضالات الشعوب في مختلف أنحاء العالم، لمواجهة الاستبداد والانحرافات السلطوية، تحت شعار مشترك: الدفاع عن الحرية والحقيقة وكرامة الإنسان.
وختمت كرمان خطابها بدعوة ملحة إلى الشعوب الحرة حول العالم، قائلة: "دافعوا عن ديمقراطيتكم، احموا حقوق الإنسان، وساندوا المظلومين في كل مكان، لأن فقدان حرية التعبير هو فقدان القدرة على بناء عالم عادل وسليم".
وفيما يلي نص الكلمة:
حين نتحدث عن السلام لا يجب أن ننحصر في صورته الضيقة التي تربطه فقط بغياب إطلاق النار أو انتهاء المعارك. إن السلام الحقيقي ليس هدنة مؤقتة تُفرض بالقوة، ولا هو صمت البنادق فوق ركام العدالة.
السلام الذي ننشده ليس غياب الحرب فحسب، بل غياب الظلم، غياب القهر، غياب التمييز، غياب الاستبداد، غياب الاحتلال.
السلام الحقيقي هو عدالة تُقام، وحقوق تُصان، وكرامة لا تُمس.
إنه عندما يجد الإنسان نفسه آمنًا في وطنه، متساويًا في فرصه، متمكنًا من صوته، لا يخاف من قول الحق، ولا يُحاصر لأنه طالب بحقه.
العديد من دول العالم عاشت سنوات طويلة دون حرب… لكنها لم تعش يومًا واحدًا في سلام. لأن الفقر ظل ينهش أجساد الفقراء، والتمييز ظل يقتل الأرواح بصمت، والاستبداد ظل يُسكت الكلمة ويكسر الإرادة، والاحتلال ظل جاثمًا على صدور الشعوب، يسرق أرضها وقرارها ومستقبلها.
فهل يُسمى هذا سلامًا؟
لا، هذا سلام هش وسلام زائف .
السلام لا يكون إلا حين تنكسر قيود الظلم، وتُكسر جدران الاحتلال، ويُستعاد الحق، ويُصان الإنسان
السلام المستدام لا يُمنح… بل يُبنى.
يُبنى بالحريات، بالقوانين العادلة، بالتعليم، بالتنمية، وبالعدالة الانتقالية.
يُبنى عندما تُجبر الأضرار، ويُحاسب المجرمون، وتُعترف الحقوق، ويُسمع صوت المظلوم.
انظروا إلى الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال، كيف يمكن أن نحدثهم عن السلام؟ كيف نقول للطفل في غزة أو سوريا أو السودان او اليمن، أو أوكرانيا أن هناك سلامًا، وهو لا يجد مأوى، أو دواء، أو مدرسة، أو حتى اسماً في سجلات الحياة؟
السلام لا يتحقق ما دام هناك مستوطنات تُبنى، وجدران تُفصل، ومجازر تُرتكب، وأنظمة وميليشيات تُمعن في القمع، والمجتمع الدولي يلوذ بالصمت أو يتواطأ.
لا نرضى بالسكوت على المجرمين، بل نُطالب بالمساءلة.
لا نكتفي بوقف إطلاق النار، بل نعمل من أجل بناء عالم لا تشتعل فيه النيران أصلًا.
لقد فشل المجتمع الدولي في مقاربة النزاعات في منطقتنا من زاوية عادلة. في اليمن والسودان وليبيا وسوريا، ساد منطق الصفقات على حساب الحقوق، وغابت مساءلة المجرمين مقابل الحفاظ على “الاستقرار”. والنتيجة أن الفاشيات العسكرية والطائفية كوفئت، والمجتمعات الدامية تُركت وحيدة في مواجهة القهر.
السلام لا ينفصل عن كرامة الإنسان وحقه في أن يكون شريكًا لا تابعًا. لا يمكن بناء سلام فوق أنقاض الحرية. وكل سلطة مستبدة، سياسية كانت أو دينية، هي عنف مزمن يُنتج الكراهية ويقوّض التعايش. السلام الحقيقي يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة تؤمن بالحوار لا بالسلاح، وبأن الاختلاف لا يُدار بالإقصاء بل بالشراكة.
على المواطنين أن يدركوا أن السلام ليس حالة سكون أو حياد، بل هو فعل يومي شجاع، ومسؤولية أخلاقية، وتضامن إنساني حي. ففي زمن الحروب والظلم، يصبح الصمت خيانة، والتخاذل شكلًا من أشكال التواطؤ. بإمكان الشعوب أن ترفع صوتها عاليًا، أن تنظم صفوفها سلميًا، أن تضغط على حكوماتها للالتزام بالقانون الدولي، وأن تدعم الحركات التي تدافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. السلام يبدأ عندما يرفض الناس الكراهية، ويقاومون التضليل، ويقفون دفاعًا عن كرامة كل إنسان. وعندما تتوحد الشعوب عبر الحدود والهويات، مطالبةً بالعدالة والمساءلة، فإنها تبني قوة لا تقهر، أقوى من السلاح: إنها القوة الأخلاقية للإنسانية.
لا ريب أن النساء والأطفال هم الأكثر معاناة في الحروب. فهم لا يسقطون فقط ضحايا في تبادل النيران، بل كثيرًا ما يُستهدفون عمدًا بالتهجير، والعنف الجنسي، والجوع، وانهيار الخدمات الأساسية. لكن النساء لسن مجرد ضحايا، بل هنّ في الصفوف الأمامية لصناعة السلام. في كل بقعة من النزاعات، رأيت نساء يخاطرن بأرواحهن لإنقاذ الحياة، ولملمة المجتمعات، والمطالبة بالعدالة. إن كنا نريد نهاية حقيقية للحروب، فعلينا أن نضع أصوات النساء في قلب مسارات الحل، وأن نمكّن قيادتهن في بناء السلام.
في عالم يفيض بالحروب، وتتمدد فيه الكراهية، وتتسع رقعة الصراعات، أشعر بقلق عميق على الحريات الديمقراطية التي نناضل من أجلها، وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية الصحافة. فحرية الصحافة تتعرض اليوم لهجوم شرس وممنهج، ليس فقط من قبل الأنظمة الاستبدادية، بل حتى من داخل بعض الديمقراطيات الراسخة. وتتنوع أدوات القمع بين التضليل الإعلامي، والمراقبة الرقمية، والتجريم، والعنف المباشر.
حرية التعبير ليست ترفًا، بل هي خط الدفاع الأول عن الحقيقة، والحصن الأخير للمساءلة. ومن دونها، تسقط الديمقراطية، ويغيب العدل، وتتلاشى الشفافية.
أنا فخورة بانتمائي إلى ثورات الربيع العربي، تلك اللحظة التاريخية التي جعلت من حرية التعبير قضية مقدسة، ومن الكرامة والعدالة شعارًا عابرًا للحدود. انتفضنا بأحلام عظيمة، وما زلنا حتى اليوم في قلب تلك الثورة، نحمل مشعلها، ونقاوم الردة الوحشية التي جاءت بها الثورات المضادة. لم نستسلم ولن نستسلم، لأننا لا نرى في ثوراتنا فشلًا، بل نراها نضالًا مستمرًا نحو الحرية، والعدالة، ودولة القانون.
وما يبعث على القلق العميق اليوم هو أن التهديد لهذه القيم لم يعد حكرًا على الأنظمة القمعية، بل تسلل إلى قلب الديمقراطيات الغربية. رأينا في دول مثل الولايات المتحدة وكندا وغيرها من البلدان الغربية، مؤشرات مقلقة على تراجع خطير—من قمع أصوات الطلاب، إلى تقييد الحريات المدنية، إلى ازدياد العداء تجاه المعارضة السلمية.
هذه ليست مؤشرات هامشية، بل إشارات إنذار حقيقي على انحدار في منظومة الحقوق، وتآكل في أسس الحكم الرشيد.
هذا التراجع لا يترك لنا خيارًا سوى أن نتوحد في معركة واحدة. نحن الذين نقاوم الاستبداد في بلادنا، وأولئك الذين يواجهون انحراف الديمقراطية في بلدانهم، شركاء في النضال ذاته: من أجل الحرية، ومن أجل الحقيقة، ومن أجل كرامة الإنسان.
وأنا أدعو كل فرد حر أن يتحمّل مسؤوليته:
دافعوا عن ديمقراطيتكم، احموا حقوق الإنسان، وساندوا المظلومين في كل مكان، لأن فقدان حرية التعبير هو فقدان القدرة على بناء عالم عادل وسليم.
لقد رأينا الغياب شبه الكامل لدور الأمم المتحدة في فلسطين، وفي إيران، وفي أوكرانيا، على الرغم من تصاعد الأزمات واتساع رقعة المآسي. يحدث هذا العجز في وقت تتنامى فيه قدرات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التي غيّرت موازين الأمن والحرب. وبينما تكبر التحديات، تتضاءل قدرة المنظمة الأممية، وتزداد هشاشتها أمام الفظائع.
ولهذا، نحن بحاجة إلى إصلاح عميق وجذري في بنية الأمم المتحدة. يجب أن تتحول من كيان للمساعي الحميدة الضعيفة، إلى مؤسسة تمتلك صلاحيات حقيقية، وقوة عسكرية أممية تحت شرعية دولية لحماية الأمن والسلم الدوليين، وتملك الجرأة لتسمية المجرم باسمه، لا أن تساويه بالضحية.
اليوم، مثلًا، يرتكب الحوثي جرائم مروعة بحق الشعب اليمني، ومع ذلك تُصر الأمم المتحدة على معاملته كطرف سياسي لا كمجرم حرب، وذلك نتيجة لضعفها البنيوي وخضوعها لتوازنات القوى.
ولأجل سلام عالمي حقيقي، نحن بحاجة إلى دول كبرى راعية للسلام والحرية، لا منتهكة لها في أماكن، وصامتة عنها في أماكن أخرى.
نحن لا نريد من يرفع شعار السلام بينما يمارس عكسه في الخفاء أو بالصمت.
لا نريد من يدّعي حماية الحرية، وهو أحد أسباب قمعها وسقوطها.





